البنيوية في القراءة النقدية العربية المعاصرة
المقدمة
أطلق لقب عصر النقد على كل من القرن الثامن عشر والتاسع عشر. ولكن القرن العشرين يستحق هذا اللقب دون أدنى ريب، إذ لم تنهمر فيه الكتابات النقدية انهمارا فقط بل وصل النقد فيه إلى درجة جديدة من الوعي بالذات ومكانة أعظم في اﻟﻤﺠتمع، وجاء في العقود الأخيرة بمناهج جديدة وبأحكام مستحدثة. فالنقد الذي لم تتجاوز أهميته حتى في القرن التاسع عشر الحدود المحلية في غير فرنسا وإنكلترة أخذ صوته يسمع في بلاد بدت في ماضي على هامش الفكر النقدي. الاتجاهات الأدبية والنقدية تتعلق بقضية العلاقة الثقافية، وقد أصبحت لهذه القضية أهمية خاصة لأن العالم يسير موضوعيا نحو التوحيد. النقد اللغوي اتجاه من الاتجاهات الأدبية والنقدية للقرن العشرين. ومع بداية الستينيات، شاهد العالم العربي ظاهرة المثاقفة والترجمة والاطلاع على المناهج النقدية اللغوية الحداثية كالبنيوية الشكلانية والتكوينية والسيميوطقية والتفكيكية والتأويلية.
البنيوية Structuralism
«البنيوية» اتجاه نشأ في فرنسا في الستينات من القرن العشرين، وكتب فيه، تنظيرا وتطبيقا، عدد كبير من البنيويين في شتى الحقول العلمية، بدءا بالأدب وانتهاء بالنقد الأدبي، ومرورا بالألسنية والأنثربولوجيا[1] وعلم النفس والماركسية والأبستيمولوجيا[2]، وحتى الرياضيات... الخ، فإنها انتشرت بعد ذلك وهاجرت إلى معظم بلدان العالم. وهي محاولة علمية منهجية لدراسة الظواهر من وجهة نظر البنية والنموذج والبناء الصوري والعلاقات الباطنية المكونة لموضوع ما.
إن البنيوية طريقة لتحليل الفنون الثقافية. وبما أن الأدب شكل من أشكال النشاط الاجتماعي والثقافي، فإن تحليله بلغة علاماتية هو أمر ممكن، وذلك عن طريق الكشف عن طبيعة العلامات التي تتكون منها، وعن كيفية عمل النظام الذي يتحكم باستخدامها وتركيبها. ويتكوّن المنهج البنيوي من تحليل البنى الداخلية في النص. وهو لا يهتم بالمعنى (المدلولات) بل بالدوال[3]. وهذا ما يعنيه رولان بارت[4] Barthes Roland عندما يقول: «إن الأدب يمثل سيادة اللغة، وإن اللغة هي مضمون الأدب، وإن كل ما يفعله الكاتب هو قراءة اللغة». ويفترض النقد البنيوي أن النقد هو امتداد لعملية القراءة، وأن الناقد هو قارئ نموذجي يتمتع بقدرة فائقة على التعبير. إن القراءة تختلف عن النقد في أنها عملية اندماج مع العمل الأدبي، بينما يضع النقدُ الناقدَ على بُعد معيّن من النص. ويتكوّن النقد من بناء فعلي لمعنى النص. والأعمال الأدبية لا تمتلك -في البنيوية ـ معنى أحاديا.
مصطلح البنية مشتق من الأصل اللاتيني Stuere الذي يعني البناء أو الطريقة التي يُشاد بها المبنى[5]. ويقصد بها في علم اللغة مجموعة مركبة من العناصر المتماسكة، والمتداخلة فيما بينها، بحيث تلغى فكرة التفرّد؛ بل يتوقّف كل عنصر على بقية العناصر الأخرى، ومدى علاقته بها؛ فتكون البنيوية عبارة عن دراسة العلاقات بين البنى المختلفة في النص الأدبي. البنية تنظيم يعبّر عن تماسك العلاقات داخل ذلك النص الموحّد. يُفهم من ذلك أن البنيوية نظرية قائمة على تحديد وظائف العناصر المترابطة الداخلة في النص. عرفها الأنتروبولوجيون بأنها مجرد منهج أو نسق يمكن تطبيقه على أي نوع من الدراسات[6]. والنقد هنا يصبح مثل العملية الجراحية التشريحية [7].
إن أول من أسس منهج البنيوية اللغوي السويسري فردينان دي سوسير[8] Ferdinand de Saussure في محاضراته[9] : «دروس في الألسنية العامة» Course in General Linguistics التي ألقاها عن ثنائية اللغة والكلام، وثنائية المحور التاريخي التطوري، والمحور التزامني الوصفي، إضافة إلى ثنائية علمي اللغة: الداخلي و الخارجي. وقد قامت البنيوية على هذه الثنائيات اللغوية المتقابلة. وقد استفاد سوسير من مبادئ المذهب التجريبي الذي تبنته الدراسات اللغوية[10].
نشأت البنيوية في فرنسا، في منتصف الستينيات من القرن العشرين عندما ترجم تودوروف Tzvetan Todorov أعمال الشكليين الروس Russian Formalists إلى الفرنسية. فأصبحت أحد مصادر البنيوية. ومن المعلوم أن مدرسة الشكليين الروس ظهرت في روسيا بين عامي 1915 و1930، ودعت إلى الاهتمام بالعلاقات الداخلية للنص الأدبي، واعتبرت الأدب نظاما ألسنيا ذا وسائط إشارية (سيميولوجية) للواقع، وليس انعكاسا للواقع[11]. واستبعدت علاقة الأدب بالأفكار والفلسفة والمجتمع. وقد طورت البنيوية بعض الفروض التي جاء بها الشكليون الروس. المصدر الثاني الذي استمدت منه البنيوية هو «النقد الجديد» New Criticism الذي ظهر في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين في أمريكا، فقد رأى أعلامه أنه لا حاجة فيه للمضمون، وإنما المهم هو القالب الشعري، وأنه لا هدف للأدب سوى الأدب ذاته[12]. و«الألسنية» Linguistics هي المصدر الثالث الذي استمدت منه البنيوية، ولعلها أهم هذه المصادر، وعلى الخصوص ألسنية فرديناند دي سوسير الذي يُعد أبا الألسنية البنيوية. وعلى الرغم من أنه لم يستعمل كلمة «بنية» فإن الاتجاهات البنيوية كلها قد خرجت من ألسنيته، فقد مهد لاستقلال النص الأدبي بوصفه نظاما لغويا خاصا. وفرق بين اللغة والكلام: فاللغة عنده هي نتاج المجتمع مستقل عن الفرد للملكة الكلامية، أما الكلام فهو حدث فردي متصل بالأداء وبالقدرة الذاتية للمتكلم. ورأى أن اللغة ينبغي أن تدرس بمنهج آني سكوني لا تاريخي تطوري، لأنها ما دامت (بنية) أو (نسقا رمزيا) فلا بد من التسليم بأنها لا تنطوي على أي بعد تاريخي. وقد شدد سوسير على دراسة اللغة دراسة وصفية داخلية، وعلى كونها نظاما خاصا من العلامات أو الإشارات المعبرة عن الأفكار. واعتقد سوسير بأن «الدال» Signifier أو الصورة السمعية للكلمة لا تنطوي على أية إشارة أو إحالة إلى مضمون «المدلول» Signified[13].
وقد ميز سوسير بين ثلاثة مستويات في اللغة هي: اللغة، واللسان، والكلام. فاللغة هي المظهر الواسع الذي يشمل كل الطاقة الإنسانية للكلام. واللسان هو نظام من اللغة يستخدمه المرء لتوليد المحادثة للآخرين. وأما الكلام فهو أقوالنا الخاصة. ورأى أن اللغة نظام من الإشارات تعبر عن الأفكار، فهي لذلك تقارن بنظام كتابة الأبجدية الصامتة، والطقوس الرمزية، والصيغ السياسية، والإشارات العسكرية... الخ. لكنها أعظم من كل هذه الأنظمة. وعلم اللغة هو جزء من هذا العلم العام «السيميولوجيا»[14] Semiotics . ميّز سوسير بين الدراسة التزامنية (السنكروني) والزمنية (الدياكروني) في دراسة اللغة[16]، وشدد على الدراسة التزامنية على حساب الدراسة الزمنية. كما طور تمايزا آخر هو: التمايز بين العلاقات الأفقية والعلاقات العمودية في الإشارات: فالعنصر الأفقي/ التتابعي في اللغة يؤثر في وضعية الإشارة: فمعنى الكلمة يحدده وضعها في الجملة وعلاقتها بالوحدات القواعدية لتلك الجملة.
وقد تأثر رواد النقد البنيوي الفرنسي بسوسير، ودفعهم هذا التأثر إلى الكشف عن أنساق الأدب وأنظمته وبنياته، باعتبار الأدب نظاما رمزيا يحوي نظما فرعية. فذهب بارت Barthes إلى تقعيد القصة وتحليل السرد، بينما اهتم تودوروف Todorov بأدبية الأدب، أو بما يجعل من الأدب أدبا. ولعل بارت Barthes هو الذي أشار إلى أن البنيوية هي محاولة لنقل النموذج الألسني إلى حقول ثقافية أخرى[17]. أعطى بارت لمصطلح البنية منطلقه الأول في دراسات هو مقالاته النقدية النظرية والتطبيقية[18]. وضع «مبادئ السميولوجيا» عام 1964 مؤسسا به سيميولوجيا النقد الأدبي. ففي كاتبه «س/ز» S/Z 1970 تولد القراءة تفاعلات وتفسيرات جديدة خاضعة لسحر الدال.
وفي تطبيقاته للمنهج البنيوي على العلوم الإنسانية: الأنثربولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والنقد الأدبي، يُعد كلود ليفي شتراوس[19] Claude Lévi-Strauss الرائد البنيوي بلا منازع في الحقل الأنثربولوجي. فقد درس المجتمعات الفطرية والهندية في البرازيل، ثم أكمل دراسته في نيويورك، حيث التقى ياكوبسون[20] Roman Jakobson مؤسس الشكلية الروسية وحلقة براغ اللغوية Prague Language Circle الذي مارس تأثيرا منهجيا عليه. فتوطدت بينهما علاقة فكرية كان لها الفضل في تطور البنيوية، حين اشتركا معا في تحليل قصيدة «القطط» لبودلير Charles Baudelaire تحليلا بنيويا في عام 1962، وأصبح تحليلهما هذا واحدا من كلاسيات الممارسة البنيوية الرفيعة. وطبّق شتراوس بنيوية سوسير في دراسته للمجتمعات البدائية[21]. وقد ركّز شتراوس على اللغة Langue أكثر من الكلام Parole على نحو ما فعل سوسير الذي درس اللغة دراسة آنية وتعاقبية، في حين ركز شتراوس على الدراسة الآنية، وإن لم ينكر الأبعاد التعاقبية. توسط شتراوس بين العناصر المتضادة، كما أفاد من منهج الصوتيات الذي تجاوز دراسة الظواهر اللغوية الواعية إلى دراسة البنية اللاشعورية. ورفض معالجة الكلمات أو الوحدات على أنها عناصر مستقلة.
وأما جاك لاكان[22] Jack Lacan فقد قام بتطبيق المنهج البنيوي على علم النفس، حيث أصبحت اللغة عنده نظرية علمية مستقلة يمكن بوساطتها وصف اللاشعور بطريقة علمية، وفهم قوانينه بدقة متناهية. وبناء على هذا المبدأ فقد وضع لاكان بعض الأسس التي ترى أن كلام اللاشعور ينتظم في بنية متماسكة على أنه لغة، وأن بنية الشخصية هي عدة مستويات لغوية. وقد وجد لاكان في كتابات فوكو وبارت ما يدعم آراءه، فقد أشار هذان إلى المكونات اللاواعية للنصوص الأدبية. كذلك تقبل ميشيل فوكو[23] Michael Foucault التعارضات الثنائية في محاولته الكشف عن الأركولوجيا اللاواعية للمعرفة في كتابه «أركولوجيا المعرفة». فقد كان نظام الأشياء عنده يعتمد على الفرضيات البنيوية. ودرس الجنون والطب والعلاج النفسي خلال أبنية معرفية ترتبط بحقب تاريخية، وتتضمن اللاوعي الفرويدي. وهي أبنية تضرب بجذورها في المجتمع. أما لويس ألتوسير[24] Louis Althusser فقد رفض المعطى الأنثروبولوجي الذي تضمنته المعركة الفكرية بين سارتر[25] Jean Paul Sartre وشتراوس، ليؤكد المفاهيم الاقتصادية الماركسية، ويفصل الظواهر الاجتماعية المشاهدة عن القوانين الكامنة للصراع الطبقي، فغدا ألتوسير بنيويا باستخدامه هذا المنهج الذي أكد فيه الأبنية الاقتصادية والمواقف الطبقية. ترتكز بنيوية تشومسكي[26] Noam Chomsky في اللغة على أن في كل لغة بنية سطحية وبنية عميقة. ونادى بنقل العلوم اللغوية، وفي مقدمتها علم النحو وعلم النظم بخاصة، من العلوم النظرية إلى العلوم التطبيقية[27].
فإن البنيوية التي حملت لواء العلمية والموضوعية بحكم استنادها إلى علوم دقيقة كاللسانيات تمثل خطوة حاسمة باتجاه الوضوح المنهجي في ممارسة نقد علمي للسرديات. إن الألسنية البنيوية قد أصبحت محور اهتمام علماء اللغة في أوربا وأمريكا. وكان لها فضل الإصرار على دراسة اللغة من وجهة النظر الوصفية، مما أدى إلى تصفية الأحداث اللغوية من ملابساتها المتغيرة، وإلى التركيز على النظم الكلية الشاملة، وعدم تبديد الجهود في التفاصيل الصغيرة. وتتطلب دراسة البنية: تحليلها وتفكيكها داخل النص إلى عناصرها المؤلفة منها، دون النظر إلى أية عوامل سياقية خارجة عنها، مهما كانت مؤثرة . وتكمن مساهمة البنيوية في أنها أمدت النقد بأداء منهجي يقف على جمالية النص ويقبض على مكوناته وعلائقه الداخلية[28]. المبدأ الذي أثار قضية كبرى في الأوساط الأدبية والنقدية هي قضية أطلق عليها البنيويون شعار «موت المؤلف» لكي يضعوا حدا للتيارات النفسية والاجتماعية في دراسة الأدب ونقده، وبدأ تركيزهم على النص ذاته بغض النظر عن مؤلفه، أيا كان هذا المؤلف والعصر الذي ينتمي إليه والمعلومات المتصلة به. وقد كان البنيويون يقصدون بهذا الشعار ألا تصبح البيانات المرتبطة بالمؤلف هي جوهر الدراسة النقدية للأدب أوهي نقطة الارتكاز الرئيسة الموجهة للعمل التحليلي النقدي. بل يجب أن تكون نقطة الارتكاز – عندهم – هي من النص ذاته. حينما يؤمن هذا الاتجاه بالواقع دون غيره في تحليل النص، فيتجاهل ما فوق الواقع والقيم الأخلاقية؛ فذلك ينافي تحقيق التفاعل بين النص والمتلقي فضلا عن الإخلال بالاعتقاد الإسلامي.[29] أثبت المنهج البنيوي خصوبته[30]، فاعتمده الباحثون في دراسة ميادين عديدة: الأساطير، والقصص، والشعر، والنقد الأدبي. لكن البنيوية إذا كانت قد منحت العلوم الإنسانية الموضوعية، فإنها قادت إلى نتيجة هامة هي فقدان الدراسات خصوصيتها وتوهجها، حيث ظلت أسيرة النموذج اللغوي. وبهذا وقعت في مأزق الوضعية والمعيارية الجامد[31].
البنيوية التكوينية Genetic Structuralism
بدأت البنيوية شكلية أولا، وعندما اقتصرت البنيوية الشكلية على تحليل النص وحده، دون الرجوع إلى مراجعه النفسية لدى مبدعه، أو ظروفه الاجتماعية، وجدت نفسها أمام الباب المسدود، بسبب هذه الانغلاقية. فجاءت «البنيوية التكوينية» ليكون انفتاحا على الآفاق الثقافية والاجتماعية والتاريخية. ثم ظهرت «البنيوية الجذرية» أو النفسية و«البنيوية السيميائية»، وأصبحت كل مسرب من هذه الثلاثة اتجاها نقديا مستقلا بنفسه، فيما بعد. نشأت البنيوية التكوينية استجابة لسعي بعض المفكرين والنقاد والماركسيين، للتوفيق بين أطروحات البنيوية في صيغيتها الشكلانية وأُسس الفكر الماركسي أو الجدلي في تركيزه على التفسير المادي والواقعي للفكر والثقافة عموما[32].
جورج لوكاش Georges Lukàcs (1885ـ1971)، الفيلسوف المجري، فقد سيطر على مجمل سوسيولوجيا الأدب في القرن العشرين. وقد كان لكتابه النقدي الهام «نظرية الرواية» الذي نشره في برلين عام 1920 الأثر الهام في البنيوية التكوينية، فيربط بين التطور الاجتماعي والتطور الأدبي في مضامينه وأشكاله. وقد قدم العالِم النفسي جان بياجيه Jean Piaget تصورا نظريا متكاملا عن البنية في كتابه «البنيوية». يرى بياجيه أن البنية توجد عندما تتمثل العناصر المجتمعة في كل شامل. ولوسيان غولدمان Lucien Goldmann (1913-1970)، مفكر وناقد فرنسي من أصل روماني وتلميذ لوكاش، هو الذي أرسى أسس البنيوية التكوينية[33]. فقد قدّم منذ عام 1947 فرضية التي أصبحت أساس منهجه. وهي أن الأدب والفلسفة تعبيران عن «رؤية للعالَم»[34] La vision du monde، وإن رؤية العالم ليست وقائع فردية بل هي اجتماعية، إذ أنها ليست وجهة نظر الفرد المتغيّر باستمرار، بل هي وجهة نظر، ومنظومة فكر مجموعة بشرية تعيش في ظروف اقتصادية واجتماعية متماثلة، وتعبير الكاتب عن هذه المنظومة له دلالة كبيرة فهو يستمد منها[35].
طبق لوسيان غولدمان التصور البنيوي التكويني على مجال الدراسة الاجتماعية للأدب. فقد اصطبغت قوانين البنية عند غولدمان بلون جدلي ماركسي. ويقوم المنهج السوسيولوجي لدى غولدمان باستخلاص الدلالة الموضوعية للعمل الأدبي، ثم يربطها بالعوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للفكر. ففي كتابه «الإله الخفي»[36] 1956، يقوم غولدمان بتطبيق منهجه النقدي البنيوي التكويني على «الجانسينية» Jansénistes[37] لدى راسين Racine وباسكال Pascal اللذين تأثرا بها. ومنهج غولدمان في تطبيق المادية الجدلية على دراسة الأدب قد حقق هدفين في وقت واحد[38]: فقد أنقذ البنيوية الشكلية من انغلاقها على النص المنقود وحده، كما أنقذ المنهج الاجتماعي من إيديولوجيته التي كانت تقيّم الأدب من وجهة نظرها هي فحسب. فجاء المنهج البنيوي التكويني منهجا علميا موضوعيا يؤكد على العلاقات القائمة بين النتاج والمجموعة الاجتماعية التي ولد النتاج في أحضانها[39]. وهذه العلاقات لا تتعلق بمضمون الحياة الاجتماعية والإبداع الأدبي، وإنما بالبنيات الذهنية[40] Structures mentales التي هي ظواهر اجتماعية، لا فردية. وهذه البنيات الذهنية ليست بنيات شعورية أو لا شعورية، وإنما هي بنيات عمليات غير واعية. ومن هنا فإن إدراكها لا يمكن أن يتحقق بوساطة دراسة النوايا الشعورية للمبدع، ولا بوساطة تحليل محايث، وإنما بوساطة بحث بنيوي، ذلك أن الفرد الذي يعبّر عن الطبقة الاجتماعية، وعن رؤيتها للعالم، إنما يتصرّف انطلاقا من هذه البنيات الذهنية التي تسود المجموعة التي يعبّر عنها.
يرى غولدمان إن الرواية كأدب تتجاوز الإيديولوجيا، لأنها تصوغ رؤية العالم في شكل فني. إن تحليل الرواية ينبغي أن يتجه إلى بنية العمل الداخلية. وهو ما يطلق عليه اسم «الفهم» Compréhention. ثم ينتقل إلى المرحلة الثانية هي «التفسير» Explication الذي يؤكد انتماء منهجه إلى سوسيولوجيا الأدب. ومنها يتم الربط بين البنية الدالة وبين إحدى البنيات الفكرية المتصارعة في الواقع الثقافي للمجتمع. ومفهوم «البنية» Structure ومفهوم «التكوين» Génèse هما الأساس الذي تقوم عليه البنيوية التكوينية حيث تدرس المرحلة الأولى وتفهمها، وتفسر المرحلة الثانية ربط العمل الفني بالبنى الفكرية الموجودة خارجه، وتدرك وظيفته ضمن الحياة الثقافية في الوسط الاجتماعي. وهذا المنهج لا ينفي تدخل اللاوعي Unconscious في العملية الإبداعية، ولذلك فإن البنيوية التكوينية إذ تمدّ جسرا بين علم الاجتماع والبنيوية عندما تقول بضرورة تحليل بنية العمل الروائي الداخلية، فإنها تمدّ جسرا آخر بين علم الاجتماع وعلم النفس عندما لا تنفي تدخل عامل اللاوعي الفردي في بناء العالم الروائي والإبداعي، على الرغم من أن غولدمان انتقد المنهج البنيوي الشكلي، والتحليل السيكولوجي الفرويدي، لأن الأول يرفض الدلالة الاجتماعية للأدب، ولأن الثاني يقف عند حدود التفسير الفردي. تجمع البنيوية التكوينية بين الفهم والتفسير لتعقد تماثلا بين البنية الجمالية المستقلة والبنية المرجعية. وإن أولى الإثباتات العامة التي يستند إليها الفكر البنيوي هي القائلة بأن كل تفكير في العلوم الإنسانية إنما يتمّ من داخل المجتمع لا من خارجه، وبأنه جزء من الحياة الفكرية لهذا المجتمع، وبذلك فهو جزء من الحياة الاجتماعية.
البنيوية في القراءة النقدية العربية المعاصرة
هجمت على بلاد العرب المناهج النقدية الحداثية دفعة واحدة، أواخر القرن العشرين: النقد الألسني، والأسلوبي، والبنيوي، والسيميائي، والتفكيكي.. إلخ. ومن الملاحظ أن هذه المناهج النقدية بدأت في بلدان المغرب قبل المشرق، بسبب إطلال مثقفي المغرب مباشرة على الثقافة الأوربية، وشيوع الثقافة الفرنسية في هذه البلدان، ثم أخذت به بلدان المشرق العربي. نشر النقاد المغاربة كتبهم في عواصم البلدان العربية المشرقية، ودراساتهم في المجلات الأدبية المشرقية أيضا. لم تنتشر البنيوية في العالم العربي كما كانت في الغرب تتوزع في كل المجالات، سواء العلوم الإنسانية، أم غيرها من البحتة. فقد تمركز هذا المنهج في النقد الأدبي دون غيره.
وعندما وصلت البنيوية إلى الوطن العربي متأخرة نظّر لها، وكتب فيها باحثون ونقاد تراوحت كتاباتهم بين الالتزام الدقيق بمقولاتها مثل صلاح فضل، والخروج على أطروحاتها، أو تركيب أكثر من منهج نقدي مثل عبد الله الغذّامي، وذلك تبعا لاستيعاب هؤلاء النقاد للمقولات البنيوية، وتبعا لمتابعتهم لجديدها، لأن البنيوية بُنيت بالتدريج طوال أكثر من ثلاثين عاما. فمن شهد مقولاتها في مرحلة نشوئها وظل يراوح عند مرحلة النشوء بات متخلفا إزاء مقولاتها التي جدت في مرحلة ازدهارها أو احتضارها، ذلك أنها غيرت جلدها، وطورت مقولاتها، خلال مسيرتها النقدية: فعندما وجدت البنيوية نفسها أمام الباب الشكلاني المسدود، بحثت عن اتجاهات تطيل أمدها، فولد منها اتجاها بنيويا جديدا: البنيوية التكوينية، كما جدّت اتجاهات نقدية جديدة خرجت من قلب البنيوية، ثم استقلت عنها كمناهج نقدية جديدة كالتفكيكية[41] Deconstruction. وقد ظهرت المحاولات النقدية إلا أنها ظلت محدودة ومتواضعة، رغم تحفزها وطموحها المتردّد للتوازي مع ما وصل إليه النقد الغربي. الاستقبال العربي للبنيوية قد توزّع لثلاثة مشارب مختلفة[42]:
1. الترجمة من النظريات النقدية الغربية إلى اللغة العربية.
2. مراجعة الموروث العربي؛ للخروج بأوجه اتصال وتقابل بينه وبين ما لدى النقد الغربي.
3. التطبيق، وتناول النصوص العربية القديمة والحديثة، وإسقاط النظريات النقدية عليها.
2. مراجعة الموروث العربي؛ للخروج بأوجه اتصال وتقابل بينه وبين ما لدى النقد الغربي.
3. التطبيق، وتناول النصوص العربية القديمة والحديثة، وإسقاط النظريات النقدية عليها.
وقد بدأت البنيوية العربية في أواسط الستينيات حين نشر محمود أمين في مجلة «المصور» مطلِقا على هذه المناهج: «الهيكلية»[43]، وبعدها توقف الزحف حتى نهاية السبعينيات فقد نشر العديد من النقاد والأدباء العرب دراساتهم التي اتجهت اتجاهي البنيوية: الشكلاني، والتكويني، وإن كان للتكوينية النصيب الأكبر من الانتشار.
أما أوزياس Auzias فلعله من أوائل الذين عُرّبت مؤلفاتهم[44]، فقد تم تعريب كتابه «البنيوية» عام 1972. وهو أول دراسة شاملة عن البنيوية ترجمت إلى اللغة العربية. وهكذا كتب في البنيوية مفكرون وباحثون ونقاد عرب في الفكر والنقد، مثل زكريا إبراهيم، وصلاح فضل من مصر، وعبد الفتاح كيليطو، وصدوق نور الدين، ومحمد برادة، ونجيب العوفي من المغرب، وعبد الملك مرتاض من الجزائر، وفؤاد أبو منصور من لبنان، وعبد الله إبراهيم من العراق...، وغيرهم.
أما أوزياس Auzias فلعله من أوائل الذين عُرّبت مؤلفاتهم[44]، فقد تم تعريب كتابه «البنيوية» عام 1972. وهو أول دراسة شاملة عن البنيوية ترجمت إلى اللغة العربية. وهكذا كتب في البنيوية مفكرون وباحثون ونقاد عرب في الفكر والنقد، مثل زكريا إبراهيم، وصلاح فضل من مصر، وعبد الفتاح كيليطو، وصدوق نور الدين، ومحمد برادة، ونجيب العوفي من المغرب، وعبد الملك مرتاض من الجزائر، وفؤاد أبو منصور من لبنان، وعبد الله إبراهيم من العراق...، وغيرهم.
القراءات التنظيرية العربية للبنيوية الشكلية
ولعل أول العرب الذين كتبوا في البنيوية هو المفكر زكريا إبراهيم المعروف بإبداعاته الفكرية في المجال الفلسفي، ولعل كتابه «مشكلة البنية» من أوائل الكتب العربية التي وُضعت في التنظير للبنيوية[45]، فقد أصدره عام 1976 انطلاقا من أن البنيوية أصبحت "اللغة الشارحة لكل حضارتنا المعاصرة"، وأن إنسان القرن العشرين قد بدأ يعرف ذاته بأنها مجرد "بنية"، وأنه هو نفسه إنسان "دال"، صانع معان. هذا كتاب شمولي حاول فيه التعريف بالبنيوية، وبأعلامها في شتى الحقول العلمية. وإذا كان زكريا إبراهيم قد جاء بكتاب بنيوي شامل، وأغفل النقد البنيوي، فإن صلاح فضل قد وضع كتابه «نظرية البنائية في النقد الأدبي» عام 1977 للنقد وحده[46]. ولعله أفضل كتاب وُضع بالعربية عن التنظير للنقد البنيوي آنذاك، لأنه كتاب علمي جاد، وضع بلغة نقدية، وعالج أصول البنيوية، واتجاهاتها، ومستوياتها[47]. كتب عبد السلام المسدي «الأسلوب والأسلوبية: نحو بديل ألسني في نقد الأدب» عام 1977م، في علاقات البنيوية باتجاهات النقد المماثل.
وأما عبد الفتاح كيليطو[48] ناقد متميز من المغرب العربي الذي ينتمي إلى جيل الثمانينيات بين النقاد العرب الذين يخوضون معركة تأصيل الثقافة العربية. كتب كيليطو كتبا قليلة، وصفحاتها قليلة (مجموع صفحات كتبه بالعربية لا يتجاوز 800 صفحة) ولكن هذا القليل وضعه في مصاف أفضل النقاد والباحثين العرب[49]. فقد أصدر كتابه «الأدب والغرابة: دراسات بنيوية في الأدب العربي» عام 1982. وأما الناقد المغربي الآخر صدّوق نور الدين فقد أصدر كتابه «حدود النص الأدبي: دراسة في التنظير والإبداع» عام 1984 قال فيه: " المنهج البنيوي يعتبر النص بنية مغلقة، وداخل هذه البنية ثمة علاقات منتظمة... وقد حاولت في هذه الخطة الاستفادة من المناهج السالفة، رغبة في تشكيل نوع من التوفيق الهادف خدمة النص، ودون الرسو بسفينة النقد عند منهج بذاته" (ص 7-8). فؤاد أبو منصور ناقد وباحث لبناني، نشر كتابه «النقد البنيوي الحديث: بين لبنان وأوربا» عام 1985. وأصدرشكري عزيز الماضي كتابه «في نظرية الأدب» عام 1986. وهو مجموعة من المحاضرات ألقاها في جامعة قسنطينة. سعيد الغانمي ناقد حداثي عراقي، أصدر مع زميليه كتاب «معرفة الآخر: مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة» 1990. تسرّب المنهج البنيوي بطريقة واسعة إلي النقد العراقي في الثمانينات[50].
القراءات التطبيقية العربية للبنيوية الشكلية
يتراوح النقاد العرب المعاصرون في المستوى التطبيقي لتحليل الشعر بين الالتزام بمبادئ البنيوية، والخروج عليها في محاولة "توفيقية" بين مناهج عديدة[51]. ولعل كمال أبو ديب في سورية، وصلاح فضل في مصر، ومحمد بنّيس في المغرب، وعبد الله الغذّامي في السعودية هم رواد التنظير العربي للمنهج البنيوي في الوطن العربي، وهم مؤسسوه. فقد كان ظهورهم في وقت واحد (نهاية السبعينات وبداية الثمانينات) دليلا على الرغبة في تلقي هذا المنهج النقدي في الوطن العربي.
كمال أبو ديب ناقد سوري حداثي تخصص بالمنهج البنيوي وحده. فوضع فيه كتابه: «جدلية الخفاء والتجلي: دراسات بنيوية في الشعر» 1979 يؤسس فيه لهذا المنهج الجديد، تنظيرا وتطبيقا، في وقت مبكر من تلقي هذا المنهج في الوطن العربي. وكان الكتاب أول مبادر إلى تطبيق البنيوية. وتنبع أهمية هذه المبادرة في أنها تطبيق كامل على الشعر العربي القديم بمنهجية ومصطلحات البنيوية إلى حد الميكانيكية[52]. ثم وضع كتابه الثاني «الرؤى المقنّعة: نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي» عام 1987 خصصه للجانب التطبيقي في هذا المنهج. خالدة سعيد باحثة وناقدة، وهي زوجة الشاعر الحداثي الكبير أدونيس، وضعت كتابين: «لبحث عن الجذور» 1960 و«حركية الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحديث» 1979، رسمت في الثاني ملامح الإبداع العربي الجديد في ثلاثة أجناس أدبية هي: الشعر، والرواية، والقصة القصيرة. من خلال منهجين نقديين هما: المنهج الانطباعي، والمنهج البنيوي. درست على ضوء المنهج البنيوي قصيدتي «هذا هو اسمي» لأدونيس، و«النهر والموت» للسياب[53]. ظهر الناقد السوري عبد الكريم حسن بكتابه «لموضوعية البنيوية: دراسة في شعر السيّاب» عام 1983، وهو رسالة جامعية تقدّم بها الباحث إلى جامعة السوريون عام 1980.
عبد الله الغذّامي[54] ناقد حداثي من السعودية. ظهر في الوطن العربي في منتصف الثمانينات، بكتابه الأول «الخطيئة والتكفير» 1985 فأحدث ضجة كبرى[55] في صفوف النقاد العرب: لأنه تبنى فيه أحدث منهجين نقديين آنذاك، وهما: البنيوية والتشريحية أو (التفكيكية Deconstruction)، نشر حتى عام 2000 أكثر من خمسة عشر كتابا نقديا كلها في التطبيق الذي غلب عليه أكثر من التنظير النقدي. طلع الناقد المغربي الحداثي محمد مفتاح في ميدان النقد في مطلع الثمانينات بكتابه «في سيمياء الشعر القديم» 1982، ثم تتابعت الحداثية في مجال النقد. ظهر عبد الملك مرتاض[56] الناقد الحداثي من الجزائر، في ميدان النقد في منتصف الثمانينات، ثم استمر مخلصا له، فوضع فيه عدة كتب مثل «تحليل الخطاب السردي: معالجة تفكيكية سيميائية» عام 1995.
كتب الناقد الحداثي من مصر حسن البنّا عز الدين[57]، في ميدان النقد في نهاية الثمانينات، كتابه «الكلمات والأشياء: التحليل البنيوي لقصيدة الأطلال في الشعر الجاهلي» الذي هو في الأصل رسالة الدكتوراه التي دافع عنها، تحت إشراف عز الدين إسماعيل. أبو ناضر[58] ناقد حداثي من لبنان. وضع كتابه «الألسنية والنقد الأدبي» عام 1979، وهو أول محاولة بنيوية ظهرت في إطار النقد العربي البنيوي التطبيقي في السرد ضمن كتاب خاص. سيزا قاسم باحثة حداثية من مصر. أصدرت كتابها «بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ»[59] عام 1984، وهو طبعة مزيدة ومنقحة لرسالتها الجامعية التي تقدمت بها عام 1978 للحصول على درجة الدكتوراه من كلية آداب جامعة القاهرة. سعيد يقطين ناقد حداثي من المغرب. اهتمّ بالسرديات[60]، وله فيها آثار كثيرة. وقد كان كتابه «القراءة والتجربة: حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب» 1985 تجربة مثيرة[61]، حلل فيها ـ بنجاح ـ أربع روايات تجريبية في الأدب المغربي المعاصر، وفق المنهج البنيوي الشكلي، ومصطلحاته. و عُني الناقد المغربي الحداثي حسن بحراوي بالسرد فوضع كتابه «بنية الشكل الروائي» 1990، عرض فيه الاهتمام بالرواية منذ هيغل، فلوكاش الناقد المجري ذي الاتجاه الماركسي.
القراءات العربية للبنيوية التكوينية
يمكن القول بأن البنيوية التكوينية أكثر المذاهب النقدية الغربية انتشارا في العالم العربي[62]، وعلى نحو لم يتح للفرع الآخر من البنيوية وهو البنيوية الشكلانية. ويمكن القول أيضا إن سر هذا الانتشار يعود إلى هيمنة الاتجاهات الماركسية تحديدا، في أكثر البيئات النقدية العربية. لعل الكتاب «البنيوية التركيبية: دراسة في منهج لوسيان غولدمان» أول تنظير عربي في المنهج البنيوي التكويني، فقد نشره عام 1982 جمال شحيّد. هو ناقد حداثي سوري، وأستاذ جامعي، ترجم عددا من الكتب الفرنسية. وبعد صدور كتاب جمال شحيّد بعامين أصدر الناقد الجزائري محمد ساري كتابه «البحث عن النقد الأدبي الجديد» 1984 خصصه للنقد البنيوي التكويني وتطبيقاته. وفي مجال التطبيق للبنيوية التكوينية ظهرت قراءات قامت بتجريب مقولات البنيوية التكوينية. ومن الدراسات القديمة لمقاربة البنيوية التكوينية قراءة الناقد المصري غالي شكري المعنونة بـ «المنتمي». تناول غالي شكري فيها قضية الانتماء في ثلاثية نجيب محفوظ، وهي معالجة رؤية الانتماء أو أزمة جيل نجيب محفوظ الأساسية[63]. أصدر طاهر لبيب الكاتب التونسي، المثقف بالثقافة الفرنسية. كتابه «سوسيولوجية الغزل العربي: الشعر العذري نموذجا» باللغة الفرنسية عام 1972، ثم عرّبه حافظ الجمالي عام 1981. الكتاب مقاربة عربية استوحت المنهج البنيوي التكويني صراحة. تجلت عناصر المنهج الاجتماعي في هذه القراءة لما تناول لبيب أهم العناصر الأساسية المحيطة بالظاهرة الشعرية العذرية العربية. يلاحظ الباحث (رؤية خاصة للعالَم) عند جماعة العذريين[64]، وكأنها نواة وعي أو شعور جمعي لمجموعة اجتماعية مشخصة كانت قد عاشت في شروط مادية خاصة.
محمد بنّيس[65] شاعر وناقد مغربي معاصر. ، بدأ حيته النقدية بدراسته الهامة «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب: مقاربة بنيوية تكوينية» 1979 في وقت مبكر لم تكن الدراسات النقدية ذات المناهج الجديدة. الدراسة قراءة الظاهرة الشعرية في المغرب ووعي إشكلاية منهج الكتابة. سعى بنيس إلى تبني منهج يستند إلى وعي بالقوانين والبنيات الداخلية والخارجية للمتن الشعري وللكشف عن الربط الجدلي بينهما للوصول إلى النواة، أو المكون الباني[66]. نجيب العوفي ناقد حداثي من المغرب. أصدر كتابه النقدي «مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية»[67] عام 1987، وهو رسالة جامعية حصل بها على درجة الدكتوراه من جامعة الرباط. يُمنى العيد[68] ناقدة معاصرة من لبنان، ظهرت في ميدان النقد في منتصف السبعينات. أكثر ما كتبت عن السرديات، زاوجت فيها بين المنهجين: الاجتماعي والبنيوي. ودراستها «في معرفة النص» 1983 قراءة بنيوية تكوينية بتأثير الاتجاه الماركسي. حاولت فيه تسويغ منهج النقد الجديد، بالاستفادة من كشوفات الشكلانية والبنيوية[69]، ومقاربة رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»[70] للروائي السوداني الطيب صالح، من حيث عن رؤية الكاتب التي وصفتها بالمأساوية. «الرواية المغربية ورؤية الواقع: دراسة بنيوية تكوينية» 1985 للناقد الحداثي المغربي حميد لحمداني[71] من أبرز القراءات النقدية العربية التي تبنت المنهج البنيوي التكويني بشيء من المرونة[72]. وهي في الأصل رسالة جامعية حدد زمانها منذ بداية استقلال المغرب عام 1956 وحتى 1978، وحدّد موضوعها: ثماني عشرة رواية لعشرة روائيين. يعد حميد لحمداني من أوائل النقاد الذين نبهوا إلى ظاهرة الاتجاهات الجديدة[73].
ومن القراءات الأخرى للبنيوية التكوينية: دراسة الباحث السوري محمد عزام المسماة «فضاء النص الروائي...مقاربة بنيوية تكوينية». تقوم مقاربة عزام على قراءة البنية السطحية لأدب نبيل سليمان المتمثلة في تحليل الشكل التعبيري والفني لرواياته التاريخية والسياسية والاجتماعية[74]، ودراسة مدحت الجيار بعنوان «النص الأدبي من منظور اجتماعي»، ودراسة مختار جبار المسماة «شعر أبي مدين التلمساني.. الرؤيا والتشكيل»، وقراءة الباحث العراقي سلمان كاصد بعنوان «الموضوع والسرد»، ودراسة رفيق رضى صيداوي المسماة «النظرة الروائية إلى الحرب اللبنانية».
الخاتمة
البنيوية هي محاولة لتطبيق النظرية الألسنية على موضوعات وفعاليات أخرى، حيث يمكن أن ننظر إلى الأسطورة، أو مباراة كرة القدم، أو قائمة أنواع الطعام في مطعم، باعتبارها نظام أدلة. فيحاول التحليل البنيوي أن يعزل مضمون الأدلة، ويتجاهله، من أجل أن يركز اهتمامه على العلاقات الداخلية في النص. البنيوية تجرأت على النص وأزاحت ما كان يحيط به من هالة قدسية تعيق عن الرؤية الموضوعية المتأنية، إضافة إلى أن «موت المؤلف» كانت الفكرة الجانية عليها. بدأ التحليل البنيوي الشكلي أولا، وعندما وقف أمام الباب المسدود حين حصر همّه في النص وحده جاء التحليل البنيوي التكويني ليكون انفتاحا على الآفاق الثقافية والاجتماعية والتاريخية. البنيوية التكوينية تجمع بين الفهم والتفسير لتعقد تماثلا بين البنية الجمالية المستقلة والبنية المرجعية.
لم يكن النقد العربي القديم بأدواته يستطيع تحليل النص الأدبي كما يقوم به أصحاب البنيوية الآن؛ إلا أن هناك بعض البدايات والنظرات التي تشابه إلى حدٍ ما ما يقوم به البنيويون اليوم كما يوجد في نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني[75]. بدأ انتشار البنيوية في العالم العربي منذ الستينات للقرن العشرين. تمركزت البنيوية العربية في النقد الأدبي دون غيره من العلوم الإنسانية. فقد نشر العديد من النقاد العرب دراساتهم التي اتجهت اتجاهي البنيوية: الشكلاني، والتكويني، وإن كان للتكوينية النصيب الأكبر من الانتشار. إن في القراءة العربية المعاصرة للنقد البنيوي الحداثي توجد بنيويات لا بنيوية واحدة، ذلك أن كل ناقد فهم البنيوية كما يحلو لـه، واستوعب من معطياتها ما رآه مناسبا لـه. وفي مجال البنيوية العربية تتلامح أسماء عدد كبير من المبدعين والمفكرين والنقاد العرب هم زكريا إبراهيم وصلاح فضل وفؤاد زكريا وجابر عصفور ونبيلة إبراهيم وكمال أبو ديب وموريس أبو ناضر وشكري عياد ورشيد الغزي ومحمد بنيس وحسين الواد وسمير حجازي ونجيب العوفي ومحمد سبيلا وحمادي صمود وحسن جمعة ومحمد جمال باروت وعز الدين اسماعيل ومحمود طرشونة وسمير المرزوقي وجميل شاكر وعبد الله الغذامي وصالح القرمادي وجمال شحيد وعبد الفتاح كيليطو وسامية أحمد أسعد ومحمد الهادي الطرابلسي ويمنى العيد ومحمد مفتاح وتوفيق بكار. ولا شك أن في هذه الأسماء غالبية النقاد العرب المهمين من أجيال مختلفة. لما شاعت شكوك حول ضعف الكفاية المنهجية للبنيوية في شتى حقولها المعرفية، ظهرت ما بعد البنيوية Post Structuralism. يقع أصل تفكير ما بعد البنيوية في اعتقاده بصفات غير متساوية وغير متناسبة للغة[76]. التفكيكية هي مظهر رئيسي[77] استعملتها نظرية ما بعد البنيوية في النقد الأدبي. تجاوبت ما بعد البنيوية غالبا مع الوعي التاريخي والثقافة الأخلاقية[78].
المصادر
1. أبو هيف، عبد الله، (2000)، "النقد الأدبي العربي الجديد"، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.
2. حمودة، عبد العزيز، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، مجلة عالم المعرفة – الكويت، العدد: 232.
3. خفاجي، محمد عبد المنعم، (2002)، مدارس النقد الأدبي الحديث، دار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط: 2.
4. صدار، نور الدين، مدخل إلى البنيوية التكوينية في القراءة العربية، مجلة عالم الفكر، ع 1، م 38، يوليو 2009.
5. عبد الجليل، منقور، (2001)، علم الدلالة، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.
6. عبد الفتح، سمير، البنيوية، مجلة العربي- الكويت، العدد: 419، أكتوبر 1993م.
7. عزام، محمد، (2003)، تحليل الخطاب في ضوء المناهج النقدية المعاصرة، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.
8. الغذامى، عبد الله، (1998)، الخطيئة والتكفير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط: 4.
9. فضل، صلاح، (1998)، نظرية البنائية في النقد الأدبي، القاهرة: دار الشروق.
10. قصاب، وليد إبراهيم، (2005)، الحداثة العربية الشعرية، الشارقة: جمعية حماية اللغة العربية.
11. Achutan, M., (2006), Paschatya Sahitya Darshanam, 2 ed, Kottayam: DC Books.
12. Anandan, K.N., (2003), Bhashashastratile Chomskian Viplavam, Thiruvananthapuram: Bhasha Institute
13. Cuddon JA, , (1999), Literary Terms and Literary Theory, London : Penguine Books.
14. Encyclopaedia Britannica 2008 Ready Reference, DC Books, Kottayam
15. Jeorge, CJ (Ed.), Adhunikanandara Sahitya Sameepanangal, Bookworm, Thrissur, (1996)
16. Pokker, P.K., (2002), Darrida – Apanirmanatinte Tatwachintakan, Thiruvananthapuram: Bhasha Institute
17. Raveendran, P.P., (1999), Adhunikanandaram: Vicharam, Vayana, Current Books, Thrissur.
18. Ryan, Michael, Literary Theory: a practical introduction, Ed 2, Blackwell Publishing, USA , 2007.
21. http://www.alhayat.com/culture/12-2008/Item-20081207-126e461d-c0a8-10ed-0088-d0c1fe5b7d96/story.html
[3] عزام، محمد، (2003)، تحليل الخطاب في ضوء المناهج النقدية المعاصرة، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، ص: 242
[4] الناقد الاجتماعي والأدبي الفرنسي (1980)، ساعد لتأسيس البنيوية كأحد الحركات الثقافية القيادية للقرن العشرين
[9] Ryan, Michael, Literary Theory: a practical introduction, Ed 2, Blackwell Publishing, USA , (2007), P35.
[10] حمودة، عبد العزيز، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، مجلة عالم المعرفة – الكويت، العدد: 232، ص:180.
[13] Pokker, P.K., (2002), Darrida – Apanirmanatinte Tatwachintakan, Thiruvananthapuram: Bhasha Institute, P 23,
[14] دراسة الإشارة والسلوك التي تستعمل الإشارات، خصوصا في اللغة. ظهر السيميوطيقا طريقة لفحص الظواهر في الحقول المختلفة: علم الجمال وأنتروبولوجيا والاتصالات وعلم النفس وعلم الدلالة.
[16] Anandan, K.N., (2003), Bhashashastratile Chomskian Viplavam, Thiruvananthapuram: Bhasha Institute, P 37
[18] خفاجي، محمد عبد المنعم، (2002)، مدارس النقد الأدبي الحديث، دار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط: 2 ، ص 201.
[19] أحد علماء الاجتماع الفرنسيين وكان لأعمال ليفي ستروس أثر بليغ في مجال علم الإنسان والتحقيق الإثنولوجي الميداني.
[22] طبيب فرنسي مؤسس مدرسة التحليل النفسي في باريس استند في تعليمه على دراسات الألسنية وعلم الجنس البشري
[29] قصاب، وليد إبراهيم، (2005)، الحداثة العربية الشعرية، الشارقة: جمعية حماية اللغة العربية، ص: 141
[30] http://www.alhayat.com/culture/12-2008/Item-20081207-126e461d-c0a8-10ed-0088-d0c1fe5b7d96/story.html
[34] صدار، نور الدين، مدخل إلى البنيوية التكوينية في القراءة النقدية العربية المعاصرة، مجلة عالم الفكر، ع 1، م 38، يوليو 2009، ص: 94.
[36] The Hidden God: a Study of Tragic Vision in the 'Pensées' of Pascal and the Tragedies of Racine
[37] الجانسينية Jansénistes هي حركة فرنسية التي تراجعت عن خدمة الملك ورفضت كل تفاهم مع العالم لتنعزل من أجل أن تقوم بمغامرة إنسانية.
[41] اصطلاحية تشير إلى ممارسة خاصة في القراءة، ولذلك إنها طريقة نقدية وشكل من التحقيق التحليلي. الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا Jacques Derrida هو واضع نظرية التفكيكية في أوربا.
[58] دكتوراه في الألسنية والأدب من جامعة السوربون، وأستاذ في السوربون (72-1974) وفي الجامعة اللبنانية.
[75] خفاجي، محمد عبد المنعم، (2002)، مدارس النقد الأدبي الحديث، دار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط: 2 ، ص 219.