مدرسة التحليل النفسي في النقد الأدبي العربي الحديث
ن. شمناد *
( مقالة نشرت في مجلة "كالكوت" الصادرة عن قسم العربية، جامعة كالكوت، في عددها الجديد يونيو 2010، ص: 13-24)
المقدمة
تعرضت مفاهيم النقد الأدبي إلى تغيرات خلال القرن العشرين فيما تختص وظائف النقد وأساليبه وأهدافه. فبعد أن كان النقد في المفهوم الكلاسيكي ينظر إلى الأثر الأدبي بحد ذاته، أي باعتباره موضوعا مكتفيا بذاته، برز المفهوم الحديث للنقد وفيه لم يعد الأثر الأدبي موضوعا طبيعيا يتميز عن الموضوعات الأخرى بالسمات الجمالية فحسب، بل صار الأثر الأدبي يعتبر نشاطا فكريا عبر واسطته شخص معين عن نفسه، أي باختصار، فإن هدف النقد التحول عن الموضوع نفسه، إلى كل ما يحيط بالموضوع مع التركيز على التفاصيل. فقد ظهرت مدارس عديدة لدراسة النتاج الأدبي أو الفني تعتمد على الأسس الفلسفية الحديثة. ومن أهمها: مدرسة النقد الشكلي البنيوي، ومدرسة النقد البراغماتي، ومدرسة النقد الوجودي، ومدرسة النقد الاجتماعي والماركسي، ومدرسة النقد الأنثوي، ومدرسة النقد النفسي والتحليل النفسي.
التحليل النفسي Psycho-Analysis
التحليل النفسي مدرسة نفسية لسيغمند فرويد Sigmund Freud، وهي تفسير السلوك الإنساني تفسيرا جنسيا. وتجعل الجنس هو الدافع وراء كل شيء. التحليل النفسي نظرية وطريقة في معالجة الاضطرابات العصبية، وقوامها محاولة نبش العواطف والأفكار المكبوتة عند المرء ورفعها إلى مستوى الوعي ثم تحليل حصيلة هذه العملية وتفسيرها[1]. وبذلك يزول العصاب Neurosisأو الاضطراب العصبي. والتحليل النفسي يعتمد، أكثر ما يعتمد، على تداعي الأفكار (أو المعاني) الحر free association of ideas على دراسة الأحلام وتأويلها. ومفاتيح السيكولوجية الفردية عند فرويد ثلاثة: الجنس والطفولة والكبت. يستعمل التحليل النفسي منهجا من مناهج النقد الأدبي[2]. وعلماء النفس يبحثون عما عند الأديب من غريزة حب الاستطلاع، وحب نفسه، وعما عنده من إعجاب. ومن أشهر نقاد التحليل النفسي: هربرت ريد، وريتشاردز، وشارل مورون، وجاستون باشلارد.
الأسس النظرية للنقد الأدبي النفسي
يستمد النقد النفسي معالمه من النظريات النفسية التي يعتمد عليها، وهذه النظريات هي طروحات سغماند فرويد Sigmund Freud، وغوستاف يونغ ،Gustave Jung ومدرسة الجشطالت النفسية Gestalt Psychology. تهدف طروحات فرويد إلى تحديد شخصية الفرد ودراستها من خلال التحليل النفسي. قام فرويد بتشريع الشخصية الفكرية إلى مستويات ثلاثة يقوم على أساسها العمل الأدبي أو الفني، هي "الأنا" Ego و"الهو" Id و"الأنا العليا" [3] Super Ego. ويستقى الفنان أو الأديب طاقته من الطاقة الجنسية Libido، كذلك يستقى رؤيته الغامضة. فرويد يرجع كل الأعمال والميول والفنون إلى هذه الغريزة الجنسية، فالفن في أصوله صدى للنزعات الجنسية[4]، وهذا المذهب امتداد للمذهب الطبيعي. أغفل فرويد القوى الروحية كما أغفل القوى الفنية الجماعية المدفونة في أعماق اللاشعور. يذهب فرويد إلى أن الأحلام تعبير عن الرغبات المكبوتة في عالم الشعور[5]، فيودعها الإنسان في عالمه اللاشعوري. يستمد الأديب المبدع- عند فرويد - أصول أخيلته وتجاربه الفنية من عالم اللاشعور الفردي، ومن اللاشعور الجماعي عند يونغ[6]Jung ، أحد تلامذة فرويد. خالف يونغ مبدأ فرويد في الطاقة الجنسية وعرفها "دفقة حيوية". تعامل يونغ مع "اللا شعور الجمعي" Collective Unconscious واستنبط منه فكرة النماذج العليا Proto-types التي حلت محل الرموز الفرويدية في تفسير اللاوعي الفردي. تعتمد مدرسة الجسطالت النفسية على البنية النفسية الشاملة، وتقوم على إدراك صفة الكليات، وتعارض التوجه التجزيئي. إن من أهم شروط البنية الجشطالتية هي أن لا يتناقض أي جزء مع الصفة العامة للمجموع.
تأثر النقد الأدبي بالنظريات النفسية
اعتبرت نظريات فرويد الأكثر تأثيرا بين نظيراتها على عملية الخلق الأدبي وكذلك النقد الأدبي[7]. وقد برز الناقد الفرنسي شارل مورون في هذا المجال. اعتمد مورون كشف أسرار اللاشعور للكاتب ومن ثم تفسير آثاره وتسليط الضوع على تداعي الأفكار والقيام بعملية تنضيد النصوص، وهي عملية تشبه عملية التحليل النفسي، أي تحليل المحتويات الشعورية بغرض كشف علاقات خفية تزداد أو تخف درجة لاشعورها وإيضاح العوامل الاجتماعية التي تلعب دروها في تكوين الشخصية الأسطورية للكاتب، وخاصة مرحلة الطفولة. والناقد النفسي الجماعي، عند يونغ، يبحث عن النماذج العليا في الأدب أو الفن على حدود سواء، ويقارن بينها وبين العمل الذي بين يديه لأي أديب أو فنان. وكذلك كانت لنظريات الجشطالتية أثر كبير في النقد الأدبي إذ قدمت منهجية في الإدراك البصري على أساس فهم السمة العامة للكليات الأدبية أو الفنية مما تعتبر في صلب عملية التذوق الفني للعمل.
التحليل النفسي للنقد الأدبي
استعار النقاد من عمليات التحليل النفسي للأحلام الفرضيات الأساسية في عملية اللاشعور والتعبير عن الرغبات الكامنة بعملية التداعى association وكيفية تشكل الرؤية في الأحلام بعمليات مثل الخلط المكاني displacement والخلط الكلامي condensation. يقول الناقد الفرنسي جان بليمان نويل Jean Bellemin Noel في كتابه: "التحليل النفسي والأدب"[8]، إن الأدب يقدم وجهة نظر حول واقع الإنسان ووسطه وحول الكيفية التي يدرك بها الإنسان هذا الوسط والروابط التي يقيمها معه. والتحليل النفسي يقدم نفسه بطريقة مماثلة: إنه والأدب يشتغلان بالطريقة نفسها، فهما يقرآن الإنسان في حياته اليومية وداخل قدره التاريخي. إن أهم اكتشاف في نظرية اللاشعور هو بيانها أن الفصل بين مختلف أنشطة الإنسان قد كان فصلا اصطناعيا، فالحلم واللعب والأسطورة والملحمة والرواية والقصيدة ليست موضوعات منفصلة، لأنها من إنجازات نفس اللاشعور[9].
المحلل النفسي يحكم على النص الأدبي في مناهجه والتحقق من مسلماته النظرية بمراجعة قيمتها الكونية، ويقرأ المحلل النفسي على تعيين بعد جديد للقطاع الجمالي وإسماع ذلك الكلام الآخر بحيث أن الأدب لا يحدثنا عن الآخرين فقط، وبل وعن الآخر فينا. يقرأ المحلل النفسي نفسه بنفسه، عندما يقرأ العمل الأدبي فهو يقرأ فيه نفسه، ويحدث من خلال القراءة ما سجله فرويد في كتابه: ما وراء علم النفس، أي تفاعل لا شعور القارئ مع لاشعور الآخر.
أقام جاك لاكان Jacques Lacan[10] جسورا بين التحليل النفسي واللسانيات والنظريات الشعرية المعاصرة. اعتبر لاكان الأهم في نص اللاشعور هو قوة دالة وغياب مدلوله. قرأ لاكان آثار إدغار ألان بو Edgar Allen Pau بواسطة التحليل النفسي في "الرسالة المسروقة". ويعتبر هذا الكتاب أساسا في التحليل النفسي.
تطور مدرسة التحليل النفسي في النقد الأدبي العربي
النزعة النفسية في فهم الأدب ونقده وليدة العصر الحديث في النقد العربي، وهي وافدة على النقد العربي من الغرب. دخلت المدرسة الفرويدية في التحليل النفسي في النقد العربي الحديث مثل دراسات العقاد في ابن الرومي [11] وأبي نواس وشخصية "جحا" والعبقريات الإسلامية . كان الدكتور طه حسين أول من استعمل المنهج النفسي في النقد العربي في دراساته عن أبي العلاء المعري. كان العقاد يهتم بالمنهج النفسي في النقد الأدبي كثيرا ورجع إلى ريتشاردز في أسلوبه، فالنقد يثير، في نظر ريتشاردز، جميع الموضوعات السيكولوجية[12]. كَتبَ محمد النويهي عن بشار بن برد وابن الرومي، وبحث محمد كامل حسين في دراسته عن شخصية المتنبي.
نجح محمد خلف الله[13] وعز الدين إسماعيل وأنور المعداوي في تطبيق المنهج السيكولوجي في النقد العربي كثيرا. اهتم محمد خلف الله في "من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده" بقضايا النقد عبر الأزمنة والثقافات متوقفا عن أولئك الذين اهتموا بالنفس، وبالعقل الباطني، وبالذوق الشخصي[14]. حاول عز الدين إسماعيل في "التفسير النفسي للأدب"(1962) أن يحلل شخصية المبدع. والتعليل هنا سيكولوجي يربط بين العبقرية والعصاب[15]. نقد رمزي مفتاح في كتاب "رسائل النقد " العقادَ نقدا تأثريا بالدراسات النفسية. كتب حليم متري دراسته النقدية النفسية عن إبراهيم ناجي وشعره. اشتهر دراسة مصطفى سويف النفسية : "الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة"[16]. استعار أحمد باكثير أسلوب طريقة فرويد في مسرحيته "سرّ شهرزاد". الدراسات النقدية اليوم التي تنشر في الصحف والمجلات مملوءة ببحوث علم النفس مثل التحليل النفسي.
مارست المؤلفات حول هذا المنهج تأثيرها طويلا على نحو عميق، وإن كانت الأقل نحو تكون النقد الأدبي النفسي، إذ انصرف غالبية النقاد المعتبرين إلى إدغام التحليل النفسي أو إنجازات علم النفس في مناهجهم التكاملية التقييمية. وتعود هذه المؤلفات إلى أواخر الأربعينات من القرن العشرين مع كتاب الناقد المصري حامد عبد القادر: "دراسات في علم النفس الأدبي" (1949)، ثم توالت المصنفات التي وضعها المشتغلون بالفلسفة وعلم النفس، بالإضافة إلى نقاد الأدب، وهي "علم النفس والأدب" (1962) لـسامي الدروبي (سورية)، و"الأسس النفسية للإبداع الفني في الرواية" (1975) لـمصري عبد الحميد حنورة، و"الأسس النفسية للإبداع الفني في المسرحية" (1980) لمصري عبد الحميد حنورة أيضا.[17]
خصص شاكر عبد الحميد (مصر) جهده للنقد النفسي، فسار أولا على درب مصطفى سويف ورواد علم النفس العرب الآخرين، أمثال مصطفى صفوان ويوسف مراد، فألف أولا في هذا المجال كتابه "الأسس النفسية للإبداع الأدبي، في القصة القصيرة خاصة" (1992)، وهو بالأصل أطروحة ماجستير بإشراف العالم مصطفى سويف، رائد هذه الدراسات في الوطن العربي.
ومن الواضح، أن أمثال هذه الدراسات أقرب لعلم النفس والتحليل النفسي، منها إلى النقد الأدبي، حيث تضع المبدع وإبداعه في مختبر نفسي وسلوكي، وهو ما تؤكده اقتراحاته النهائية عن الكفاءة والتجديد في الإبداع، فانصرف عن الإبداع نفسه (النصوص) إلى مواد التحيليل النفسي المختلفة ليحكم على القصة في ثنائية الأصالة والمؤثرات الأجنبية، أي تأثيرات المثاقفة الموصولة، على أن الإبداع أدخل في مفهوم كفاءة الحرفة، مميزا إياها عن اندفاعية القصاصين إلى الجدة، تأثر بمبدعين أجانب مثل تشيخوف وموبسان وأدجار آلان بو في البداية، خلال الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، وهمنجواي وناتالي ساروت وجيمس جويس وآلان رون جرييه وميشيل بوتور في الستينات، وماركيز وكاواباتا في الثمانينيات.
وأخلص عبد الحميد لهذا المنهج، أي دراسة الأدب بأدوات علم النفس والتحليل النفسي، في كتابه: "الأدب والجنون" (1993). وتحدث فيه عن قضية العلاقة بين الإبداع الفني والمرض العقلي. وقد مهد عبد الحميد لبحثه بلمحة عن تاريخ المرض النفسي، والمرض العقلي في ذلك التداخل بين الخيال والأحلام والواقع. تركز عبد الحميد على شخصية المؤلف أكثر من أعماله الإبداعية، وقد كان المحور الأساسي الذي قام عليه منهج تحليل الأعمال الأدبية هو الاستفادة من بعض المناهج الشائعة في مجال الطب النفسي.[18]
أكمل عبد الحميد جهده في مجال علم النفس الأدبي بتعريب كتاب "الدراسة النفسية للأدب"[19] لمارتين لينداور Lindaur Martinفي 1993، وكرس عبد الحميد وجهة النظر في العلاقة الوثيقة بين علم النفس والأدب، حيث أنهما يشتركان – رغم اختلاف مناهجهما – في الاهتمام بالخبرة والسلوك والشخصية الإنسانية.[20]
والحق، أن حركة التأليف والتعريب في علم النفس الأدبي لم تتوقف، فقد وضع خير الله عصار (الجزائر) كتاب حمل عنوان "مقدمة لعلم النفس الأدبي" (1982). سعى خير الله عصار كثيرا للاقتراب من النص الأدبي، موظفا كشوفات التحليل النفسي لتغدو عناصر لمعرفة النص الأدبي. وترجم حسن مودن (المغرب) كتابا أساسيا في هذا المجال لجان بليمان نويل هو "التحليل النفسي والأدب" في 1997، والكتاب يتضمن أحدث القراءات التي توظف "اللاشعور" في معرفة النص. وقد رهن المؤلف نجاح التحليل النفسي للأدب بحسن تطبيق نظارة فرويد الممتازة.
ترجم وائل بركات وغسان السيد عام 1994 كتاب "مقدمة في المناهج النقدية للتحليل الأدبي" لـمارسيل مارني Marcelle Marini. توقف الكتاب عند الحلقة الدراسية لـلاكان Lacan التي خصصها لـ"الرسالة المسروقة" لإدغار آلان بو، ومضى إلى إنجازات نقاد آخرين مثل لافورج Laforgue وجوليا كريسيتفا، انتقالا إلى نقد شارل مورون النفسي في ممارسته للمطابقات والتشكيلات التصويرية والمواقف الدرامية والأسطورية الشخصية ومقام الدراسة السيرية[21] وإلى مجمل التوجهات الجديدة في التحليل النفسي مثل لاوعي النص حسب جان بليمان نويل، وجوليا كريستيفا والتحليل النفسي السيميائي Semanalyse[22] . ويندرج في مدرسة التحليل النفسي للنقد الأدبي العربي كتاب روزماري شاهين (لبنان): "قراءات متعددة للشخصية-علم نفس الطباع والأنماط: دراسة تطبيقية على شخصيات نجيب محفوظ" (1995)، وينتقل الكتاب من نظريات علم الطبائع إلى نظريات الطب النفسي وعلم النفس بفلسفتها المختلفة، حيث التشخيص يعتمد على بنود من السلوك المرضي بعيدا عن الشكل الخارجي لجسم المريض وعن تشريحته وفيزيولوجيته الأساسية.[23] الاستعمال التطبيقي للتحليل النفسي في النقد الأدبي على أيدي النقاد العرب ظل محدودا، باستثناء حالة باهرة ومتألقة في نقد جورج طرابيشي (سورية)، فقد اقتصر عند سواه، وهم قلة، على تحويل الرواية أو القصة إلى سياقهما النفسي، ويصير النص الأدبي إلى برهنة على العقد والاضطرابات النفسية، ليغدو الإنسان سديما في قطيع، وخير ما يعبر عن هذا النزوع المغالي في تحويل النص الأدبي وصاحبه إلى مادة علاجية على سرير التحليل النفسي هو كتاب مصطفى حجازي (لبنان): "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" (1976)، فترى إلى الإنسان محكوما بتخلفه.
جورج طرابشي والتحليل النفسي
النموذج الأبرز والأكمل للناقد الأدبي العربي الملتزم بمنهج التحليل النفسي هو جورج طرابيشي[24] في كتبه الكثيرة: "لعبة الحلم والواقع: دراسة في أدب توفيق الحكيم" (1972)، "الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية" (1973)، "شرق وغرب: رجولة وأنوثة" (1977)، "الأدب من الداخل" (1978)، "رمزية المرأة في الرواية العربية" (1981)، "عقدة أوديب في الروايات العربية" (1982)، "الرجولة والأيديولوجية الرجولة في الرواية العربية" (1983)، "أنثى ضد الأنوث: دراسة في أدب نوال السعداوي على ضوء التحليل النفسي" (1983)، و"الروائي وبطله: مقاربة اللاشعور في الرواية العربية" (1995). لم يلتزم طرابيشي بمنهج التحليل النفسي دائما، بل تطورت ممارسته النقدية من المزاوجة الأيديولوجية النفسية كما في أعماله حتى عام 1983، إلى تغليب التحليل النفسي على الأيديولوجية في كتابه عن نوال السعداوي، إلى الإخلاص للتحليل النفسي وتسويغه واستقامته منهجا نقديا شديد السطوع في كتاب "الروائي وبطله".
استخدم طرابيشي جذاذات من التحليل النفسي في منهجه النقدي الأيديولوجي الأقرب إلى الفلسفة ونظامها المعرفي في كتابيه الأولين عن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، ثم حاول تكييف التحليل النفسي لحاجات النقد الفكري أو الفلسفي المتجرد من التطرف العقائدي[25]. تلمس طرابيشي في "عقدة أوديب في الرواية العربية" منطلقاته المنهجية لأول مرة، وقد دخلها التحليل النفسي، فاعترف في هذا الكتاب بالتحليل النفسي منهجا.[26]
تنبه طرابيشي منذ كتابه "عقدة أوديب" إلى العناية بالملاحظات المنهجية للنقد الذي استغرق في التحليل النفسي شيئا فشيئا. ومنهجه ليس تحليليا خالصا. ويتضح منهج طرابيشي في التحليل النفسي بجلاء في كتابه: "الروائي وبطله" الذي يضاهي أحدث كشوفات هذا المنهج في صدوره عن النص الأدبي مستقلا، وفي توجيهه إلى شعور الرواية أولا وأخيرا. كتب طرابيشي: "ليس التحليل النفسي إلا أداة منهجية، ينبغي توظيف كشوف التحليل النفسي في خدمة النقد الأدبي"[27].
طور طرابيشي إنجازات التحليل النفسي في صوغ بديع لنقد أدبي عربي حديث في مناوشة لا وعي النص من جهة، وفي اعتماد التحليل النفسي الدلالي من جهة أخرى. وظف طرابيشي في نقده مقدرة تحليلية هائلة، بلغة زاهية ودقيقة تنساب عذبة مما يجعل من لغة العلم أقرب إلى التناول خلال ثقافة واسعة وعميقة. وتتساكن في نقده براعة التحليل وإحكام المنهجية والسند الثقافي والمعرفي من الترلث الشفاهي والمكتوب، ومن الأفكار والفلسفات، ومن الدراية الواسعة باللغة، بالإضافة إلى إعادة إنتاج أحدث مناهج التحليل النفسي، واجتماع الماركسية وعلم النفس في المنهج النقد الأدبي العربي[28].
الخاتمة
لم يتيسر للنقد الأدبي المتأثر بالتحليل النفسي انتشارا في الممارسة النقدية العربية، على الرغم من اتساع عمليات التعريف به في النقد الأدبي العربي الحديث على نحو مبكر، وعلى الرغم من وفرة الجهود النظرية المترجمة والمؤلفة، كما يوجد تطورات علاقة النقد الأدبي بالعلوم الإنسانية. ثم مازج التحليل النفسي شيء من نزوعات الحداثة حتى غدا التحليل النفسي منهجا من مناهج النقد الأدبي الحديثة. الاستعمال التطبيقي للتحليل النفسي في النقد الأدبي على أيدي النقاد العرب ظل محدودا، باستثناء حالة باهرة ومتألقة في نقد جورج طرابيشي (سورية)، فقد اقتصر عند سواه، وهم قلة، على تحويل الرواية أو القصة إلى سياقهما النفسي، ويصير النص الأدبي إلى برهنة على العقد والاضطرابات النفسية. ولا شك في أن النموذج الأكمل للناقد الأدبي العربي الملتزم بمنهج التحليل النفسي هو جورج طرابيشي.
ولكن بعض من النقاد يرفضون تطبيق التحليل النفسي في العمل الأدبي. ينكر طه حسين على العقاد إخضاعه أبا نواس للتحليل النفسي. كذلك يرفض حسين مروة الأسس التي يقوم عليها التحليل النفسي.[29] كان د. محمد مندور من أشد الناقدين للتحليل النفسي. يرفض مندور إقحام علوم خارجية على النص الأدبي، كعلم النفس وعلم الاجتماع. قد دار بين مندور ومحمد خلف الله [30] جدالا نظريا فيما يخص تقاطع الأدب بالعلوم، وخاصة علم النفس. يعتقد مندور بأن الإنتاج الأدي لا يفسره علم النفس. النفوس – في رأي مندور – وحدات غير متشابهة في خصائصها المميزة، أو بلغة أخرى فعلم النفس يسعى إلى تعميم قوانينه وتقنياته المنهجية، على كل الذوات[31]. أما القصور الفرويدي في تفسير النقد فإنه يتمثل في إصراره على إرجاع العمل إلى القوى المكبوتة، وتفسير الحقائق المرئية على أنها تمثل حقائق أخرى، أي دراسة الدور الدلالي دون الاهتمام به كظاهرة جمالية مستقلة[32].
المراجع
1. أبو هيف، عبد الله، (2000)، "النقد الأدبي العربي الجديد"، اتحاد الكتاب العرب.
2. كارلوني وفللو ، تطور النقد الأدبي في العصر الحديث ، ترجمة: جورج سعد يونس ، بيروت: دار مكتبة الحياة ..
3. هلال ، محمد غنيمي ، (2005)، "النقد الأدبي الحديث" ، نهضة مصر ، ط 6.
4. زكي ، د. أحمد كمال، النقد الأدبي الحديث-أصوله واتجاهاته ، دار النهضة العربية، بيروت .
- خفاجي، د. محمد عبد المنعم، (2002)، "مدارس النقد الأدبي الحديث"، القاهرة: دار المصرية اللبنانية، ط: .2.
6. عبد الله ، د. محمد حسن، (2005)، "مداخل النقد الأدبي الحديث" ، القاهرة: دار المصرية السعودية.
7. عبد الحميد، شاكر، (1993)، "الأدب والجنون"، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
8. شاهين، روزماري، (1995)، "قراءات متعددة للشخصية-علم نفس الطباع والأنماط: دراسة تطبيقية على شخصيات نجيب محفوظ"، بيروت: دار مكتبة الهلال.
9. طرابيشي، جورج، (1982)، "عقدة أوديب في الرواية العربية"، بيروت: دارالطليعة.
10. طرابيشي، جورج، (1995)، "الروائي وبطله: مقاربة اللاشعور في الرواية العربية"، بيروت: دار الآداب.
11. جريدة "العرب الأسبوعي" 30 يونيو 2007.
12. The Illustrated Family Encyclopedia, (2007), London : Dorling Kindersley.
13. Achutan, M. (2006), "Pashtatya Sahityadarsanam", Kottayam: DC Books.
14. Ryan, Michael, (2007), "Literary Theory: A Practical Introduction", London : Blackwel.
15. Badawi, M.M.(Ed), (2006), "Modern Arabic Literature", New York : Cambridge University Press.
18. http://ar.wikipedia.com/جورج طرابيشي
19. http://ar.wikipedia.com/التحليل النفسي
[1] The Illustrated Family Encyclopedia, (2007), London : Dorling Kindersley, P 362.
[2] أبو هيف، عبد الله، (2000)، "النقد الأدبي العربي الجديد"، اتحاد الكتاب العرب، ص: 178.
[3] كارلوني وفللو ، تطور النقد الأدبي في العصر الحديث ، ترجمة: جورج سعد يونس ، بيروت: دار مكتبة الحياة ، ص: 105.
[4] Achutan, M. (2006), "Pashtatya Sahityadarsanam", Kottayam: DC Books, P- 379.
[12] خفاجي، د. محمد عبد المنعم، (2002)، "مدارس النقد الأدبي الحديث"، القاهرة: دار المصرية اللبنانية، ط: 2، ص 129.
[14] Badawi, P 430
[15] عبد الله ، د. محمد حسن، (2005)، "مداخل النقد الأدبي الحديث" ، القاهرة: دار المصرية السعودية، ص 123
[16] عبد الله ، ص 145
[18] عبد الحميد، شاكر، (1993)، "الأدب والجنون"، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص: 7.
[20] أبو هيف، ص: 172
[22] مدرسة تحول التحليل النفسي إلى ممارسة نقدية في صلب إشكاليات الاتجاهات الجديدة.
[23] شاهين، روزماري، (1995)، "قراءات متعددة للشخصية-علم نفس الطباع والأنماط: دراسة تطبيقية على شخصيات نجيب محفوظ"، بيروت: دار مكتبة الهلال، ص: 7-8.
[24] جورج طايش (و.1939) مفكر وكاتب وناقد ومترجم عربي سوري. عمل طرابيشي مديرا لإذاعة دمشق ورئيسا للتحرير لمجلة دراسات عربية. يعيش الآن في فرنسا متفرعا للكتابة والتأليف. تميز طرابيشي بكثرة ترجماته ومؤلفاته حيث أنه ترجم لفرويد وهيجل وسارتر وجارودي وسيمون دي بفوار. وبلغت ترجماته ما يزيد عن مئتي كتاب، وله مؤلفات هامة في الماركسية وفي النظرية القومية وفي النقد الأدبي للرواية والقصة العربية خصوصا بتطبيق مناهج التحليل النفسي عليها.
[27] طرابيشي، جورج، (1995)، "الروائي وبطله: مقاربة اللاشعور في الرواية العربية"، بيروت: دار الآداب، ص: 8.
[28] Badawi, M.M.(Ed), (2006), "Modern Arabic Literature", New York : Cambridge University Press, P: 439.
[29] حبوس، عبد العزيز، خطاب علم النفس في النقد الأدبي العربي الحديث.
[30] أحد مبشري الاتجاه النفسي في النقد العربي وله كتب كثيرة مثل "من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده".
[31] جريدة "العرب الأسبوعي" 30يونيو 2007.